يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان ميزة الصبر وأهميته: "ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر؛ كقوله لخاتم الرسل؛ بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة، فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) بعد أن أنزلت عليه سورة (اقرأ) التي بها نبئ".
وقد قال ذلك شيخ الإسلام ليجمع بين المروي عن الصحابة في أول ما نزل من القرآن؛ فبعضهم قال: أول ما نزل (اقرأ)، وبعضهم قال: أول ما نزل (يا أيها المدثر).. فجمع شيخ الإسلام -وكثير من العلماء- بين هذه الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم نبئ بـ(اقرأ) وأرسل بالمدثر.
يقول شيخ الإسلام: فقال: (( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ))[المدثر:1] إلى قوله: (( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ))[المدثر:7].
إذاً: نزل الأمر بالصبر مع أول الأمر بالإبلاغ وبالنذارة، فهما مقترنان معاً.
قال: "فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر، وقال: ((وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))[الطور:48] وقال تعالى: ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا))[المزمل:10] وقال: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35] وقال: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] وقال: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))[النحل:127] وقال: ((وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))[هود:115]".
والصبر مذكور في القرآن بكثرة؛ قال الإمام أحمد : "تدبرت كتاب الله، فوجدت الله تعالى قد ذكر الصبر في أكثر من تسعين موضعاً" وهذا فيه دليل على فضل الصبر وعظيم شأنه، وشيخ الإسلام قد ذكر منها يتعلق بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد قال شيخ الإسلام قبل ذكر هذه الآيات: ولابد أيضاً أن يكون -يقصد الآمر والناهي- حليماً صبوراً على الأذى فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح كما قال لقمان لابنه: ((وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ))[لقمان:17] فمن الحكمة التي أوتيها لقمان، والتي أجراها الله على لسانه ما قاله لابنه: ((يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ))[لقمان:17] فإنه أعقب أمره له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوصية بالصبر، فمن لم يصبر، فلن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.